ما هي المناظرة، وما نتائجها على الفرد والمجتمع؟



لحسن الحظ أن ثقافة المناظرة قد بدأت تنتشر بشكل جيد وأفضل من ذي قبل في الآونة الأخيرة، لكن في المقابل لسوء الحظ أن عامّة الناس لا يعترفون بالمناظرة ويضعونها في مرتبة دونية، ويطلقون عليها وعلى مروّجيها أحكاماً واهية مغلوطة مشوّهة، تنافي ما جاءت المناظرة لأجله، وما هذا إلا نتيجة جهلهم بها ونقص وعيهم ورفضهم للجديد والمختلف كما اعتدنا، هذا بالإضافة إلى التساؤلات التي تدور في أذهان البعض بدايةً عن ماهية المناظرة وصولاً لأهدافها ونتائجها.
لهذا أتيت لكم بهذا المقال اليوم آملة أن يكون كفيلاً بالإجابة عن تساؤلاتكم وشافياً لحيرتكم.

بدايةً دعونا نسلط الضوء هنا قليلاً عن ماهيةالمناظرة..

فماهي المناظرة؟!


هي نقاش يُدار بين بين فريقين مؤيد ومعارض، لقضية جدلية معينة تحت قوانين تحكم الوقت والأدوار والطريقة المتّبعة في إلقاء الخطابات.
فيواجه كل طرف الطرف الآخر بإدّعاءته التي يدّعيها ويدعمها بأدلّة وأمثلة مواجهاً إعتراضات خصمه، محاوِلاً تثبيت رأيه وحجّته بإسقاطه لحجّة خصمه والتقليل منها بشكل منطقي لا ينافي أدبيات المناظرة بعيد عن السخرية والاستهزاء والتجريح.
فهي ممارسة فكرية تختبر العقل، و وسيلة لتحليل الأفكار و وضعها في إستراتيجيات معينة وطرحها باتباع أساليب إقناع وأساليب خطابية، فهي بهذه الطريقة تهدف إلى الوصول للحلول المنطقية المبنية على الأفكار الأكثر إقناعاً برضى كافّة الأطراف بطريقة سلمية بعيدة عن الحروب والنزاعات والأديّة، لأنها حوار ومواجهة الحجّة بالحجّة والدليل بالدليل، لا الرصاص بالرصاص والقنابل بالقنابل، فرغم وجود فريقان مختلفان بشكل تام، إلا أن اختلافهما لم يكن سبب لخلافٍ بينهما، إنما كان مفتاحاً لإجتماعهما على طاولة حوار للمبارزة الكلامية تحت سلوكيات تصل بهما سوياً لرأي أُختير وأُثبت لأنه فعلاً الأنسب والأمثل من ناحية الإقناع المنطلق من باب المنطق والعلم والأساسات الصحيحة، فهي إذاً ليست نقاشاً عقيماً، بل هي أسلوب محاجّة لا يتّبعه إلا من اختار السلم طريقاً.
فهي ببساطة حواراً متحضراً ومهذباً بعيداً عن الذاتية والتعصب والتحيز اللاإنساني، قريبة جداً من التعددية والرأي المختلف والمعارض والأفكار الجديدة التي تصل بنا فعلاً لصناعة بيئة داعمة لحوارٍ متّوازن ونقاش هادف وإحترام متبادل.

فما هي إذاً فوائد المناظرة؟ وكيف تؤّثر المناظرة اليوم على الفرد؟

لنعد قليلاً بالزمن ولنذهب في رحلة قصيرة عبر التاريخ ولنبحث هنالك عن المناظرة، لأثبت لكم أنها ليست بالعلم الحديث وليست نتيجة لأفكار غربية وعلمانية كما يعتقد البعض، فهي وُجدت منذ زمن بعيد، ربما لم تكن بهيكليتها التي نعرفها اليوم من تكوينٍ للفرق وطرح للقضايا والحجج بطريقة ممنهجة، لكن الحوار بشكل عام وإلقاء الخطابات والمبارزات الكلامية كالمناظرات الشِّعرية مثلاً قد كوّنوا جزءاً من حياة الناس قديماً قبل مئات أو حتى آلاف السنين، ومن أقرب الأمثلة على هذا تعزيز الله سبحانه في القرآن الكريم للحوار في العديد من قصصه وآياته والتي كانت في كثير منها تتحدث عن حوارات عدّة دارت بين الأنبياء وأقوامهم، أب وابنته، أخٌ وأخيه، وبين مشركٍ ومؤمن، وكأن هنالك رسالة تحثّ بني الإنسان على الحوار والنقاش المؤدّي إلى نتيجة، إما أن أقنعك أو تقنعني أو يترك كلانا الآخر كلٌ منا يمضي في حال سبيله، وليست إما أن تكون معي في صفّي تؤيّدني وتتبعني أو أقتلك!

لهذا فالحوار بشكل عام والمناظرة بشكل خاص تصنع من الفرد شخصاً واعياً منطقياً مستقلاً وليس تابعاً

فمن فوائد المناظرة:

صقل وتقوية شخصية الفرد وإكسابه مهارات النقاش والتفاوض، البحث والتحليل، المصداقية، والنقد الواضح الذي ينقد الجزئيات طبقاً لمعايير محددة ولا ينقد جزافاً لأسباب غير واضحة، كما أنها تجعل الفرد قادر على تناول المواضيع و القضايا من جوانب وزوايا عدة مما يؤهله للنقاش والحوار وطرح وجهة نظره بشكل أكثر دقة وشمولية.
المناظرة تُكسب الفرد ثقة بنفسه وتمنحه الشجاعة الأدبيّة ليقف بكل يُسر أمام جمع من الناس عارضاً أفكاره ومكنونات نفسه بكل ثقة دون أن يتعرض لنوع من السخرية أو ماشابه، كما تكسبه مفردات لغوية جديدة نتيجة للبحث المستمر واستعماله للغة الفصيحة في إلقاء خطاباته مما تمنحه الطلاقة في الكلام.

لهذا فالمُناظِر ليس كبقية الشخوص، إنما شخص يتسم بصفات تميّزه، لما له من رصيد ثقافي جيد، وقدرة على التحليل والنقد والاقناع ومهارات خطابية جيدة، وفوق كل هذا هو شخص سلمي مسالم يختار الحوار طريقاً لنشر أفكاره، يعترف بالآخر يتقبله ويقبله مهما كان مدى إختلافه عنه، وهذا ما نحن حقاً بحاجةٍ إليه اليوم.

هذا قليل من كثير فالمناظرة بحرٌ مليء بالأسرار المكنونة في أعماقها وهي فعلا اليوم الحل الأنسب والمثالي للوصول إلى السلام والصلح في ليبيا.

لكن السؤال هنا: إذا كانت كل هذه الفوائد يكتسبها الفرد من المناظرة، هل من المحتمل أن يتأثر مجتمع بأكمله بها؟!

لم يمضِ الكثير على تكوين المناظرة في ليبيا ولم تصل بعد إلى عدد كبير من الناس ولم تصبح جزءً من ثقافة المجتمع بعد، لكنها في طريقها لتكن كذلك، لكن لنفترض أنها أخذت بالانتشار وأصبحت أسلوب حياة المجتمع الليبي، كيف ستكون النتيجة إذاً؟!
ستكون عظيمة، سيصبح المجتمع واعٍ، مثقّف، واثق، متمكن، مبدع، قادر على التأثير والتغيير والنهوض بالبلاد، مسالم يتّسم بالقيادية، يختار الحوار سبيلاً للحلول، يكره النزاعات والحروب، يسير دوماً في طريق السلام.

لهذه الأسباب ليبيا اليوم بحاجة ماسّة لانتشار هذه الثقافة، وبحاجة ماسّة للمواطن المُناظر، فقد ضاقت ذرعاً نتيجة الحروب والنزاعات والآلام والخسائر المستمرة، وحان وقت إعمارها وبناءها ونشر السلام في ربوعها وأرجائها، وأن يقبل كلٌ منّا الآخر ونمسك بأيدي بعضنا البعض لنصل سوياً للسلم، نبني، نعمّر وننشئ من منطلق
"نختلفوا بس ما نتخالفوش".

- رغدة السعداوي

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في يوم المرأة العالمي || المرأة المسلمة لا تحتاج للتمكين

لأنّه كامنٌ فِيك

في عيدهم المزعوم