عزيزي يا صاحب الظل الطويل || التعلّق رهينة.. والحرية وهمٌ قاسٍ!



 عزيزي يا صاحب الظل الطويل.. 


أعيش أيامي هذه رفقة تساؤل جديد يُرهق قلبي وعقلي، يعود بي لذكريات الطفولة المُتعِبة ومشاعر اختبرتها بسوء وألم في محطات عدة من محطات حياتي، تساؤلي يا صديقي هو:

مالي كلّما أوشكت على التعلّق بشيء فرّ منّي أو فررت منه خوفًا ورهبة؟! 

أعلَم..
أن المرء يُهزَم بأحبِّ الأشياء إلى قلبه، وإن حاول الاتزان وتحكيم العقل والعيش وِفق نواميس الحكمة والمنطق، ولكنّ الكفة الراجحة دائمًا ما ينتهي بها الأمر أن تميل إلى القلب وإن لم يكن لصالحه! 

منذ صغري وأنا أعيش حالة كرّ وفرّ بين ما أتعلّق به - وإن كان شجرة - وبين ما كتبه القدر عَليّ.. 
وعندما وضعت الشجرة كمثال فأنا أقصدها بألم، كان في حديقة منزلنا شجرة تين، مُثمِرة بوفرة، أُقتُلِعَت فحزنت على نفسي، ومنذ تلك اللحظة لم أتذوق تينًا كحلاوة الذي كنت آكله منها في طفولتي مرارًا، ولم أجلس في ظل شجرة كظلّها، وإلى هذه اللحظة كلما مررت بشجرة تين أرثيها!

كان لي سلحفاة، نعم سلحفاة بالكاد تتحرك، لا تُصدِر صوتًا، لكنّها كانت لا تُخرِج رأسها الصغير من صدفتها إلا لِي.. أظن أنها كانت تحبّني كما كنت أفعل.. أسميتها "سلحوفة"، أتذكّر لحظة موتها وأتذكّر كم ذرفت من دموع وكم حزنت عليها. 

أسرتنا الصغير، ومنزلنا الصغير، كبرت بينها وفيه تعلّقت بهم كما يتعلّق الرضيع بأمّه، تركتهما عندما تعلّقت بحلمٍ أكبر.. ولم يعد أي شيء كما كان عليه منذ تلك اللحظة، توالت الأحداث المختلفة فكُنّا جميعًا ضحاياها! 

مرّ بي الكثير من الصديقات في محاولاتي الدائمة لخلق علاقات صحية وديّة في دائرة صغيرة، وانتهى الأمر بنا بتعدد الأسباب بمغادرتهن لي أو بمغادرتي لهن..
 
وهكذا مضت كثير من أحداث حياتي حتى خلّفت في نفسي "فوبيا" التعلّق، أصبحت أخاف أن أحبّ شيئًا أو شخصًا كأنّما حُبّي للشيء هو آخر مراحل بقاءه معي، كأنّما تعلّقي بالشيء هو إشارة حتمية لزواله وفراره!

كنت كما الطفلة أتلهّف لنزهة نُخطط لها، وتجربة مختلفة وددت أن أعيشها، وغرضٌ جديد وُعِدت أن أحصل عليه، حتى أنّ النوم يفارق جفناي ليلة كلّ حدثٍ مُنتَظَر لشدة حماسي وسعادتي.. لكنّي خُذِلت مرارًا جرّاء حماستي المُفرطة وإندفاعي للحياة، كُسِرت كثيرًا من أمورٍ أردتُها ولم تُرِدني فأصبحتُ أخاف أن أُريد الشيء فأخسره! أو أن أحبّ الشيء فيتخلّى عنّي! 

فأدركت بأن التعلّق بالشيء يجعل منّي رهينته، يسجنني بتسليمي التام لقلبي له طوعًا مني وانصياع.. 
فوجدت في عدم التعلّق حرية وقوة ممزوجة بألم الإنكار! ألمٍ لا ينفك عن قلبٍ اعتاد الفيض بالحُبّ لكل ما يحيط به دونما حدّ، ولكنّه لهولِ ما عاش واختبر أصبح يُكرِه نفسه ألّا يبوح، وشعوره ألّا يتعمّق وينبُت وينمو - فيُصبح على ما فعلَ نادِمًا، لا هو ظافِرٌ بما أراد ولا هو مُتخلّصٌ بما يشعر.. واقع بين مطرقة الأقدار وسندان الحياة..


قلبي يا صديقي لا يحتمل ماهو مزيّف، لا يحتمل الشعور غير الحقيقي وغير الصادق، وأنا أعجز عن مجاراة ما يضادّ قِيَمي وأفكاري ومشاعري، حتى وإن حاولت المجاراة والتظاهر بعكس ما أُكِنّ تفضحني سلوكياتي فأنا شخص رُبّيَ على الصدق، والصدق فقط! وكما يُقال: "الصدق منجاة" وكثيرًا ما أقع في مآزق جرّاء صدقي حتى شككت في مدى سماحة هذه السّمة وأصالتها! حتى ارتبتُ مدى صدق مقولة "الصدق منجاة"! ولكنّ الوقت يكشف لي أن للنجاة أشكال وبقُصري البشريّ رأيتُ النجاة مأزق! 

صديقي، أدعو الله اليوم وكل يوم أن يُعيد فيّ بعض الثقة ويهبني كثير الحكمة وأن يختر لي سُبل السلام لقلبي وأن يجود عليّ بحُبّه وأن يعلّمني حُبّه وحب كلّ ما يُحبّه من قولٍ وعمل، وأن يسوق إليّ من إن صدقتُ في حبّه نجيتُ حقّ النجاة، من استسلم لأكون رهينةً له لأنّي وجدت حريّتي في سجن وِدّه، أدعو الله أن يُكرمني بفيض الشعور وفيض الحنان فأحنّ بهما على أحبابي من أشخاصٍ وأشياء وأن لا أُحرَم صدقَ قلبٍ لا يحيَ سوى بالصدق ولا سواه!

الأكثر قراءةً

في عيدهم المزعوم

في يوم المرأة العالمي || المرأة المسلمة لا تحتاج للتمكين

مراجعة رواية "الزنزانة" لـحمد هلال