مجتمع المناظرة صدمتي الثقافية

 


"سلامٌ إليكم وإلينا سلام، سلامٌ على من رد السلام، وسلامٌ حتى على من لم يرد،  سلامٌ باسم الرب السلام،  رب العباد الله الصمد"


هكذا كان لفت الإنتباه خاصتي في أوّل وقفة لي أمام مجموعة أشخاص تتجه أبصارهم نحوي ليروا حُجّتي لا ليسمعون عُلو صوتي، لن أنسى القضية الني كنا نتناقش حولها في تلك الجلسة التناظرية، لن أنسى محاولتي في تقمص شخصية شخص يقبل التدخين في الأماكن العامة، بينما أنا لا أقبل، لن أنسى توتري ذلك اليوم وإرتجافة يداي وشعوري بعدم الإتّزان، وسخونة أطرافي وتلعثم الأحرف في فمي، ومشاعر الخوف والربكة والتردد والتفكير المستمر في الإنسحاب، ومحادثة نفسي و توبيخها لتتوقف عن كل هذا الهراء وأن تُقبِل بشجاعةٍ وثقة على إلقاء خطابها لأوّل ولآخر مرة في حياتها.هذه المشاعر التي إرتابتني بينما كنت أستعد لأُناظر لأوّل مرة بعد محاضرات نظرية دامت لأربعة أيام متواصلة لم تكُن هيّنة فقد كانت مليئة بالمعلومات والمصطلحات الجديدة والمختلفة كُلياً.ولكنّ هذا التدريب كان نقطة تحوّلي، من فتاة تهاب المجتمع وتكره الإختلاط والمواجهة والوقوف أمام جمعٍ من الناس إلى فتاةٍ أطلقت العنان لعقلها واخرجت أفكارها علناً أمام الجميع، لن أقول بكل ثقة لكن الخطوة الأولى لم تكن بذلك السوء، فالمرة الأولى الني وقفت فيها أمام المحكمين والمدربين وبعضٍ من المحترفين في هذا الجمال وساعة التوقيت المستفزة كدت أتحوّل فيها إلى رمادٍ من شدة القلق، لكن تلك التجربة كانت مفترق طرق بالنسبة لي، إمّا أن أستسلم وأعود إدراجي حيثما كنت أو أقل قيمة حتى، وإمّا أن أواجه نفسي ومخاوفي وأن أتحدث بتلك الحُجّة الركيكة وأخوض تلك التجربة التي واشكت على الشعور بالندم حيالها، لكنّي إخترت أخيرا المواجهة بعد مفاوضات مستنزِ فةمع نفسي، سأواجِه فلا طعم للحياة دون المواجهة، حادثت نفسي وتحدّيتها بأن أدلو بما لدي من حديث غير متناسق وغير فصيح اللغة ربما حتى غير مفهوم فالمهم الآن هو أن أنهي خطابي لا غير، وبالفعل وقفت أمام ذلك الجمع حاولت أن أنظر إليهم واحداً تلو الآخر حاولت أن لا أطيل النظر في الورقة وأن ألقي خطابي في الزمن المحدد لي وأن أنتزع الخوف من داخلي، وقفت وكُلّي يرتجف لم آخذ نفساً عميقاً قبل أن أبدأ، أسرعت في البدىء وكأنّي أسابق الزمن، أتحدث وأتلعثم وأعيد الكَرّة، كدت أختنق أثناء حديثي لكن الله أعانني من حيث لا أحتسب، أنهيت خطابي قبل نهاية الوقت المحدد، لم أقبل أية مداخلات من الفريق المُنافِس فلازلت في ذلك الوقت أكره المواجهة، أكره خوض الحوارات خوفاً من أن أتعرض للسخرية أو ما شابه، كلما رفع أحدهم يده أنْ مُداخلة أباشر بقول "مرفوضة" دون حتى النظر في عينا المُداخِل، فأنا في تلك اللحظات لم أكن حتى أستطيع إستيعاب ما يجري، و لم تكن حجتي واضحة حتى، فكيف يمكنني أن أواجِه أسئلة الخصم التي كانت ستوّجه فقط لإسقاط حجّتي وإسقاطي وحسم المناظرة بنهايتي..!

وانتهى أمر تلك المناظرة أخيراً ولن أقول بسلام لكنه انتهى وأنهى معه أسوأ صفاتي صفة الخوف، واتخذت قرار أن لا رجعة ولا عودة إتخذت قرار المواجهة والإنخراط في "مجتمع المناظرة" وأن أكون جزءاً من ذلك المجتمع الذي شكّل صدمة ثقافية بالنسبة لي، وأن أكوّن معهم صداقات ومعارف يساعداني على أن أرتقي بمستواي الشخصي وأن أصل لأهدافي التي لطالما تمنيتها وأن أحقق أحلامي التي لن تتحقق إلا بثقتي في نفسي وخوض العديد من التجارب، ولأني كنت أصغر المتدربين ومنخرطة في مجتمع المدارس فقد إعتدت دائماً على أن أتلقي الأوامر وأنفذها سواء رضيت بذلك أم لا، إعتدت على أن كلام المعلمين دائماً صحيحٍ، نقي، جلي، حاشاه أن يكون مغلوط حتى، وأن المعلم أكبر منك سناً فلا تناقشه لأنك لا تفقه شيئاً فعمرك لم يتجاوز الثامنة عشر بعد..!

لكن مجتمع المناظرة كان على عكس ذلك تماماً، أن تُسمع أفكارك و تُقدّر وتُناقش وتُؤخذ بعين الإعتبار، أن تواجه أفكار من هم أكبر منك سناً وبدورهم يتقبلون مواجهاتك بكل سرور، أن تتعلم فنون الحوار وأن تستطيع التحاور معهم دونما خوف أو رهبة من ردود أفعال ربما تكون سلبية أو محبطة أو محطمة لكنها في مجتمع المناظرة تكون دائماً مشجعة حتى وإن كانت ناقدة، أن تطلب إذن الحديث برفع يدك وأن يؤذن لك بالحديث ريتما ينتهي غيرك من حديثه، أن ترى التركيز على ملامح الجالسين معك وأن تشعر بإهتمامهم بما تقول مهما كان بسيطاً.كل هذا لم أراه ولم أعشه طيلة ستة عشر عاماً، ربما درست أداب الحديث والحوار في السيرة النبوية في المدرسة مثلاً لكنها أبداً لم تُطَبّق للحظة واحدة كانت مجرد حبر على ورق لِنُمتحن فيها، وكانت نقطة قوة للمعلم بأن يوصِل رسالته الخاصة الغريبة لنا أن عصيان أوامره مهما كانت من الممكن أن تؤدي بنا لدخول النار..!

أعود لأكمل حديثي عن تجربتي تلك، كانت مرعبة لكنها كانت الحاسمة، فبعد تدريب طال لأربع وعشرين ساعة بين أُناس من طبقة لم أعرفها من قبل، قررت أن أتخذ قرار المواجهة والثقة والقوة وأن أصنع النسخة الجديدة منّي لأني مؤمنة بنفسي، ولم أستطع إيجاد تلك النسخة في إزدحام الحياة الرتيبة والمملة، ومن هذا التدريب كانت النقلة القوية في شخصيتي.الآن أستطيع الوقوف والتناظر أمام مئات بل آلاف الأشخاص دونما خوف أو توتر بكل ثقة وقوة، أستطيع بناء مواقف وحجج قوية وأن أطرحها دون حتى النظر في ورقة، أستطيع أن أتحدث بطلاقة وبلغة عربية فصيحة دون تلعثم، ولازلت إلى الآن كلما وقفت لأناظر أتعلم الجديد وأكتشف نقاط ضعفي لأعمل على تقويتها وتحسينها في المرة القادمة، عشقت المناظرة والخطابات والحجج والأدلّة، أحببت صوت جرس نهاية حديث المتحدث الذي قبلي لأنه يعني بأن دوري في إلقاء خطابي قد حان، حتى إنني كرهت صوت الجرس الدّال على نهاية وقت خطابي، كنت دائماً لا أفضّل سبع دقائق لأنها كثيرة والآن لا أفضلها لأنها قليلة، هذا معنى أن تتغير بسبب تدريبٍ، بسب أربع وعشرين ساعة، بسبب قرار، بسبب "مناظرة"!


أتساءل دوماً، ماذا لو انتشرت ثقافة الحوار والمناظرة وتقبل المختلف عنا وتقدير وجهات النظر المخالفة لنا واحترام المعتقدات التي لا تناسبنا بين الناس في العالم، أو على الأقل دعوني أقول بين الناس في ليبيا تحديداً، في مجتمعنا الذي عانى كثيراً بسبب تمسكه الشديد بكل ما هو قديم الفِكر و بكل ما هو عنصري وبأرائه وكأنها قرآن مُنزّل؟!فهذا ما تسعى له هذه المؤسسة العظيمة، فكرة الحوار والمناظرة والتي تدعونا لأن نوضح أفكارنا وميولاتنا مهما كانت بالسلم، مستعينين بالحوار المليء بالحجج المنطقية والأدلّة والبراهين، منصتين لفكرة الطرف المواجه لنا، لنصل سوياً يدٌ بِيد إلى حل نهائي سلمي يرضا من الطرفين، بعيداً عن النزاعات والحروب والقتل والنهب والظلم والخراب والإستعباد، لنتوجه للثقافة والمنطق بدلا من الجهل واللامنطق، لنتوجه إلى العقل بدلاً من العاطفة التي تجعل منا مفترسين ساعين فقط للمصالح الشخصية والماديّة، فإذ إنتشرت هذه الأفكار وتقدير وفهم وجهات النظر و الإتّساع بأفاقنا ومداركنا وتحديد هدف موّحد؛ سنصل إلى السلام المرجو والمطلوب والذي تحث كل الرسائل السامية عليه، وأرى بأن مؤسسة الحوار والمناظرة ستكون أحد أسباب إنتشار السلم في ليبيا ولو بعد حين.فقد إستخدمت المؤسسة عدة شعارات تحث على السلم كشعارها "الإختلاف لا يفسد للود قضية" و "نختلفوا بس ما نتخالفوش" موضحين خلالهما بأن الإختلاف أساس الحياة فلا مهرب منه كما أنه قيمة من قيمها، وسنة إلهية في الخلق وأنه أيضا سلاح ذو حدين، ففي دولة ما انتشر السلام وعمّ الأمان بسبب الإختلاف، وفي غيرها انتشرت الحروب والنزاعات لنفس السبب، فلنجعل الإختلاف سبباً لقوتنا لا لضعفنا!أودّ القول بأن مؤسسة الحوار والمناظرة لها الفضل في التحسين منّي وتوسيع مداركي اكثر من ذي قبل وخلق الثقة في نفسي التي جعلتني متعطشة دائماُ لمعرفة كل جديد بشكل أكثر شجاعة، بالإضافة إلى الصداقات التي كوّنتها في المؤسسة مع أشخاص ذوي علم ومعرفة أشخاص شغوفين تجمعني بهم الكثير من النقاط المشتركة، والتي جعلتني أصادق من هم أكبر مني بعدة أعوام لكنهم قريبين جدا مني في التفكير أو الاهتمامات أو حتى الخطط المستقبلية..ومن هنا أقول بأنني وبكل فخر وإعتزاز أصبحت أحد أعضاء المؤسسة، وجزءاً من مشروعٍ عظيم يهدف للتغيير وإلى نشر السلام، سائلةً الله عزّ وجل أن يبارك فيها وأن يمددني بالقدرة على أن أخدم المؤسسة والمجتمع كافّة بما يمكنني تقديمه، فرسالتي في الحياة لا تختلف عن رسالة المؤسسة، معاً نتحاور من أجل السلام.


Make your life, join debate 

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في يوم المرأة العالمي || المرأة المسلمة لا تحتاج للتمكين

لأنّه كامنٌ فِيك

في عيدهم المزعوم